عبقرية الأم في الحياة

الأم.. ذلك الكائن السماوي الذي يحمل في طيات وجوده أسمى معاني الحب والحنان، وهي الزهرة التي تتفتح في بستان الحياة لتمنحنا دفء الوجود وضياء الروح. لا يمكن للكلمات أن تصف بدقة حجم عطاء الأم، فهي الحنان الذي لا ينضب، والملاذ الآمن الذي نلجأ إليه في أوقات الشدائد، والمصدر الأول لكل نجاح نحققه في حياتنا.

الأم ليست مجرد كلمة تقال، بل هي قصة حياة تُروى بحروف من نور، وعبق عطرها يملأ أرجاء النفس بالسكينة والطمأنينة. هي التي تحملت مشقات الحمل والولادة، وتراقبت نومنا بين يديها برقة لا تضاهيها رقة، وكأنها تحمل العالم كله على كتفيها من أجلنا فقط. في كل لحظة تمر علينا، تظل الأم هي الحاضنة التي لا تتوانى عن تقديم كل ما لديها من أجلنا، حتى ولو كان ذلك على حساب نفسها.

في مختلف الثقافات والحضارات، ارتبطت الأم برموز عظيمة من القوة والحكمة والصبر. في التراث العربي، كان للأم منزلة عالية، فقد ورد ذكر الأم في القرآن الكريم بأمر عظيم من الله سبحانه وتعالى، حيث حثّ على برّها والإحسان إليها، مما يدل على مكانتها السامية في المجتمع والدين. يقول تعالى: «وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا»، فمكانة الأم فوق كل اعتبار، لأنها ليست فقط سبب وجودنا في الحياة، بل هي مرآة تعكس صفاء القلب ونقاء النفس.

الأم هي المدرسة الأولى التي نتعلم فيها دروس الحياة، فهي تزرع فينا القيم والأخلاق، وتنقل إلينا معارفها وتجاربها بكل حب وإخلاص. من خلال كلماتها وتوجيهاتها، نكتسب القوة والعزيمة لمواجهة تحديات الحياة. حين نفقد الأم، نشعر بفراغ لا يُعوض، وكأن جزءاً من روحنا قد غادرنا، فوجودها يمنحنا شعوراً بالأمان والاستقرار النفسي.

لا يقتصر دور الأم على الحنان والرعاية فقط، بل تتعدى ذلك لتكون شريكاً أساسياً في بناء المجتمعات وتقدمها. فالأم هي التي تربي جيلاً واعياً ومثقفاً، وتنقل له تراث الأجداد وقيم الإنسانية. من خلال الأمهات، تتشكل الأمم وتستمر الحضارات، فهن لبنة الأساس في بناء مستقبل مزدهر ومستقر.

في عالمنا المعاصر، تتغير الأدوار وتتبدل الظروف، لكن مكانة الأم تبقى ثابتة لا تتغير. مع كل تحدٍ جديد يواجهه الإنسان، تظل الأم ملهمة دائمة، تعطي بلا حدود، وتحفز على بذل المزيد من الجهد. وعندما نلقي نظرة على قصائد الشعراء الذين تحدثوا عن الأم، نرى كم كانت مصدر إلهام لا ينضب، فكتبوا فيها أجمل الكلمات التي تعبر عن شكرهم وامتنانهم لتضحياتها.

الأم، رغم بساطتها، هي أعظم ملهمة للشعر والفن، حيث جسدت في قصائد متعددة المعاني من الوفاء، والتضحية، والرحمة. فمن “قيس بن الملوح” الذي كتب في حب ليلى مديحاً لأمه التي كانت سبباً في صبره، إلى “نزار قباني” الذي وصف الأم بأنها حياة بلا نهاية، كل شاعر رسم في كلمات رثاء أو مدح، صورة الأم التي لا تغيب من الذاكرة.

من الناحية النفسية، يلعب دور الأم دوراً حيوياً في تكوين الشخصية السوية والمتوازنة. الأطفال الذين يشعرون بحب الأم واهتمامها ينمون في بيئة آمنة تتيح لهم التعبير عن أنفسهم بثقة، مما يعزز من قدرتهم على التكيف الاجتماعي والنفسي. هذا الدور يتطلب من الأم صبراً لا محدوداً وحساسية عالية، فهي تعلم كيف تستجيب لكل حالة عاطفية لأبنائها، وكيف تمنحهم الدعم اللازم للتغلب على مصاعب الحياة.

تاريخياً، كانت الأم رمزاً للثبات والقوة، ورغم كل الصعاب، ظلت تضحياتها شاهدة على صمود المرأة العربية في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية. الأم العربية، التي تواصل الليل بالنهار، لا تكل ولا تمل من أجل أن تحقق لأبنائها حياة كريمة ومستقبل مشرق. هذا الدور لا ينتهي بمجرد تربية الأطفال، بل يمتد ليشمل الدعم النفسي والمعنوي حتى بعد بلوغ الأبناء مراحل عمرية متقدمة.

إن الحديث عن الأم لا ينتهي، فهي بحر لا حدود له من العطاء والحنان. وفي محاولة لتقديم رؤية متكاملة عن دور الأم وتأثيرها في الحياة، يمكن التطرق إلى أهم الجوانب التي تبرز عظمتها:

1. الدور البيولوجي للأم: الحمل والولادة والرضاعة، حيث تُعد هذه العمليات من أعمق وأقدس مظاهر العطاء، فهي تتضمن تقديم الحياة نفسها.

2. الدور النفسي: الحنان والرعاية، حيث تقوم الأم بتهدئة النفس، وتهيئة الأجواء الآمنة للنمو النفسي والعاطفي.

3. الدور الاجتماعي: تربية الأجيال، وغرس القيم والمبادئ، التي تشكل اللبنة الأساسية لبناء مجتمع قوي ومتماسك.

4. الدور الثقافي: نقل التراث والتقاليد، وتعزيز الانتماء الوطني والإنساني.

5. الدور الاقتصادي: دعم الأسرة من خلال العمل المنزلي وأحياناً المشاركة في العمل الخارجي لتوفير احتياجات الأسرة.

جدول يوضح أدوار الأم وتأثيرها في مختلف جوانب الحياة:

في الختام، تظل الأم هي الجوهرة الثمينة في حياتنا، والتي لا يمكن لأي شيء أن يعوض مكانتها. إن فهم قيمتها الحقيقية يعكس مدى تقديرنا للعلاقات الإنسانية العميقة التي تربطنا بها. فالاحتفاء بالأم هو احتفاء بالحياة نفسها، وبالعطاء المستمر الذي لا ينتهي، وبقصة حب لا تموت مهما مر الزمان.

المراجع:

• القرآن الكريم

• كتاب “دور الأم في بناء الأسرة والمجتمع” – د. سامية عبد الله